الدولة المدينة

مقدمـــة:
 يجب التمييز بين المفهوم الحالي للمدينة الذي يعبر عن توفير مجموعة من العناصر التي تشكل هذا التجمع السكاني من عمارات و بنايات و إدارات و مرافق و وسائل الاتصالات و غيرها من العناصر المعروفة، فما هي إذن مقومات و عناصر مدينة الإغريق حاليا ، و بين المفهوم القديم (الإغريقي ) للمدينة هذه.
المدينة الإغريقية كناية عن دويلة نواتها المدينة بمفهومها الحالي و تتبعها المدن الصغيرة و القرى المجاورة لها و عندما نقول مدينة أثينا أو مدينة إسبرطة نعني بذلك دولة أثينا أو دولة إسبرطة ، و قد جاء اختيارنا لدراسة دولة المدينة (أثينا) لما امتازت به هذه الدولة من ممارسة سياسية و نموذج ديمقراطي فريد جعلها تكون النواة الأولى في مناقشة القضايا السياسية و اتخاذ القرارات بطريقة حرة و ديمقراطية ، أي أنها خلقت الأجواء المناسبة للمشاركة السياسية ، و هذا بطبيعة الحال مع بعض التحفظات حول هذه المشاركة و الممارسة الديمقراطية ، أي هل شملت جميع طبقات المجتمع أم أنها اقتصرت على فئة دون الفئات الأخرى؟
 و مهما يكن فإن تجربة أثينا السياسية ناجحة لأن المفكرين اليونانيين اعتمدوا على منهج الملاحظة و التخطيط لكي يضمنوا للقبائل اليونانية الاستقرار السياسي و التغلب على الصراعات الاجتماعية التي كانت موجودة و التي كانت تقف أمام تقدم المجتمع ، زيادة على هذا فإن العلماء و المفكرين اليونانيين كرسوا مجهداتهم العلمية لخدمة المصلحة العامة و دعوا إلى إقامة نظام سياسي يحقق العدالة و يثقف و يعلم و يربي النشء الصاعد، و هم بهذه الميزة يختلفون عن العلماء المصريين و الصينيين و غيرهم ممن تفننوا في مدح الحكام و تقديم الخدمات الطبية و العلمية إلى الملوك والرؤساء. 
 و بما أن بحثنا هذا يهدف إلى الكشف عن الحقيقة و هذا يقتضي جمع المعلومات و البيانات و الحقائق التي تساعدنا على معرفة جوهر المعروف ، ففي هذه الحالة لا قيمة للفرضيات العلمية، و من جهة أخرى فإننا نستعمل المنهج التاريخي للحصول على هذه المعارف المتنوعة و ذلك قصد دراستها و تحليلها و معرفة بعض المشكلات الإنسانية و العمليات الاجتماعية الحاضرة بدراسة هذا الماضي أو هذا التاريخ بحيث لا يمكننا فه حاضرنا و التنبؤ بالمستقبل دون الرجوع إلى الماضي لأن التاريخ هو دراسة الأحداث في تواصلها و قطيعتها. 
مفهـــوم و نشأة دولــة المدينة:
المدينة الإغريقية هي دويلة نواتها المدينة بمفهومها الحالي ، و المدن الصغيرة و القرى المجاورة لها تتبعها، فمدينة أثينا و مدينة إسبرطة عبارة عن دول.
 عرف (جان توشار) دولة المدينة بأنهاوحدة سياسية و ليست فقط تجمعا عمرانيا:"إنها التنظيم السياسي و الاجتماعي الموحد لإقليم محدد يمكن أن يشمل مدينة أو أكثر"
إن شبه جزيرة اليونان كانت مشكلة من عدة مدن دول ، أبرزها : أثينا ، إسبرطة، مقدونيا،و كانت متكونة من مجموعة من البنايات الفردية و الجماعية ، تحيط بها أراضي الفلاحة و الرعي و تحصنها أسوار، أما مساحة هذه المدن فضيقة ، حيث كانت مساحة أثينا (2650كلم2)، و إسبرطة(8400كلم2)و هي من أكبر )(850كلم2.)                                   
أما عدد السكان فكان قليل بتقدير بعض الإحصائيات ، و ذلك لاعتقاد اليونان أن التزايد السكاني الكبير يهدد توازن المدينة ، فكان عدد سكان أكبر المدن بنحو(300ألف سكن). 
 و قد حدد أرسطو بعض الشروط الواجب توفرها لقيام دولة المدينة، و المتمثلة في:
- قيم خاصة بالمدينة
- مؤسسات
- وسائل عيش
- قوة عسكرية للدفاع عن النفس
 فكانت لكل مدينة دولة دساتيرها و قوانينها و آلهتها حتى،و إن كانوا جميعا يشتركون في اليونان.
 إن العلماء و المفكرين اليونانيين كرسوا مجهداتهم العلمية لخدمة المصلحة العامة ، و دعوا إلى إقامة نظام سياسي يحقق العدالة و يثقف و يعلم و يربي النشء الصاعد.
و هم بهذه الميزة يختلفون عن العلماء المصريين و الصينيين و غيرهم ممن تفننوا في مدح الحكام و تقديم الخدمات الطبية و العلمية إلى الملوك و الرؤساء.  
ظروف و أسباب نشأة دولة المدينة:
إن تقسيم اليونان إلى عدد كبير جدا من المدن الدول شجع عل نمو الفكر السياسي، الذي هو نتيجة تأمل ، فأخذ يتطور من خلال وجود المدينة و صيرورتها.
 كانت دولة المدينة صغيرة المساحة ، و بعضها صغير جدا ، فهي بحجم مدينة واحدة مع ريفها ، بالمعنى الجغرافي ، أما بالمعنى السياسي فهي المدينة الدولة أو المدينة ، و بهذا الإطار الضيق تحققت حياة مشتركة ميزتها القوة و الألفة ، و انسجام الغايات الأخلاقية ، من جهة و وضعا قانونيا شخصيا لأعضاء المدينة(المواطنين)، و هذا الوضع القانوني مختلف جذريا لوضع رعايا الإمبراطوريات الشرقية الشاسعة المساحة، ففي هذه الإمبراطوريات كان الشعب يعيش تحت حكم شخص مستبد ، أما في المدينة فيعيش الأفراد اليونانيين أحرارا، مندمجين بشكل وثيق بمدينتهم التي كانوا يجدون فيها كل ما هو ضروري لتفتحهم الشخصي.إن طريقة الوجود و الحياة الخاصة و الطابع النوعي الذي تميزت به المدينة ، كان يطبعهم بطابع لا يمحى، و كانوا يخضعون للقانون الذي يعبر عن الخير المدني المشترك. 
 "إن المدينة بتفكيكها للمجتمع القبلي، كانت هي التي حررتهم من الوصاية الثقيلة للعشيرة العائلية، و جعلت منهم كائنات فردية و مستقلة نسبيا، لقد كانوا مواطنين متحمسين لمدينتهم ، و مستعدين للموت في سبيل حريتها. و مع ذلك فإنهم كانوا قادرين على التفكير بأنفسهم بطريقة متميزة ، ضمن الإطار المدني ، و كان يحق لهم أن ينتظروا من المدينة أن تقدر كل واحد منهم بالقدر الذي كان يعتبر أنه مساوله . لقد أدى الوضع لإخفاء بدور عدد من القضايا الفكرية التي يمكن تلخيصها ، مع السير كما يلي: 
لقد كان هناك أفراد متميزون عن الدولة، و مع ذلك فقد كانوا في تواصلهم يشكلون دولة، ماذا كانت طبيعة التمايز ، و ماذا كان طابع التواصل؟ هل كان هناك أي تعارض بين الغرائز الطبيعية للفرد و المتطلبات الدائمة للدولة؟ أكان ما يعتبره الفرد عادلا بشكل طبيعي ، شيئا آخر غير الذي كانت الدولة تفرضه بصفة دائمة ، باعتباره كذلك؟ و إذا كان مثل هذا الاختلاف موجودا ، فكيف ظهر؟... تلك هي الأسئلة التي كان يجب ، على ما يبدو ، أن تطرح بشكل طبيعي ، نتيجة الطابع الخاص للحياة السياسية في اليونان". 
الظروف الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية التي ساهمت في ظهور دولة المدينة:
الظروف الاجتماعية: لم يتساو سكان المدينة في الحقوق والحريات و الممارسات السياسية ، و الأشخاص الأحرار ذو الأصل الأثيني يتمتعون وحدهم بكامل الحريات و الحقوق ،و هم قلائل مقارنة بنسبة السكان ، و هم بضعة قبائل ، حوالي 10 قبائل ، و هذه العائلات هي المسيطرة في المدينة، بالإضافة إلى الأجانب و هم الأغلبية ، و كذلك العبيد الذين مهمتهم العمل و حسب. 
إن هذا المجتمع متكون من عدة طبقات متمايزة ، مما يؤدي إلى وجود تمايز و صراع طبقي، و المجتمع مقسم كالآتي:
1 - طبقة المواطنون الأحرار:و هي الفئة الحاكمة المسيرة للبلاد ، من أصل أثيني ، حيث يقتسمون إدارة شؤون المدينة حسب قدراتهم البدنية و مؤهلاتهم العقلية و العلمية، لأن المفكرين اليونانيين كانوا يبحثون عن الوظيفة التي تلائم كل فرد و يستطيع القيام بها على أحسن وجه، فمنهم ما هو مؤهل للحكم ، و آخرون لحماية الدولة من الأعداء و التصدي لهم،و الباقي لتوفير الغذاء لجميع السكان بحرث الأرض ، إلا أنه كانت هناك بعض الصراعات الداخلية خاصة في أوساط الفئة الحاكمة ، حيث كانت تختلف حول صيغة السياسة الواجب إتباعها في الداخل و الخارج،و جوهر الاختلاف هو بين فئة ملاك الأرض و فئة التجار التي كانت تعمل لتنشيط التجارة الداخلية ، و تدافع عن فكرة حماية الأسطول التجاري بإنشاء أسطول بحري...
2 - طبقة الأجانب : هم الأجانب الذين يعيشون في أثينا بقصد تنشيط التجارة الخارجية، و ميزتهم أنهم أحرار أي لا يخضعون لأية سلطة حاكمة في أية مدينة، إلا أن بقاءهم بدولة المدينة يتوقف على حسن تصرفهم و عدم قيامهم بأعمال  تتنافى و المصلحة العامة، و إلا فسيطردون في أية لحظة ، و لا تتمتع هذه الفئة بأية حقوق سياسية.                       
3 - طبقة العبيد: تعمل على إرضاء و إشباع حاجيات طبقتي الأحرار و الأجانب ، و هي محرومة من جميع الحقوق السياسية ، فهي بمثابة أداة عمل.
الظروف الاقتصادية:
 عمل قادة دولة المدينة عل ضمان الاكتفاء الذاتي لدولتهم من الناحية الاقتصادية، و الابتعاد عن كل ما يحد من استقلالهم بإتباعهم العزلة التي سببت لهم بعض المشاكل بحيث تؤدي هذه العزلة إلى الانكماش و الضعف ، فيسهل القضاء عليها ، إضافة إلى ما أدت به من تعطيل علمي لعدم تبادل الأفكار و التعاون المتناسق العلمي و الثقافي . إن أثينا كانت تبحث عن تقوية اقتصادها من خلال غنائم الحروب، و كانت إسبرطة تنافسها في هذا المجال بطبيعة الحال، و البحث عن أراضي زراعية جديدة بالإضافة على تقوية التجارة الخارجية و تفعيلها، وما هو بارز في المجال الاقتصادي هي إصلاحات سولون(594-572 ق.م)حيث وفق بين الفقراء و الأشراف دون ثورة و عرف قانونه باسم (سيسكثيا) أي رفع الأعباء و ألغى شرائع داركون(621 ق,م) الذي كان قانونه شديد القسوة منحازا للأشراف حيث أغرق الفلاحين بالديون و مصادرة أراضيهم، و هكذا فقد عالج سولون المشكل من أساسه و أرضى جميع الطبقات، فأعفى الفلاحين من الديون و حل من المستعبدين و أجبر على كل شريف على توزيع أملاكه على أولاده بالتساوي و بموجب وصية ، فألغى الملكيات الكبرى التي كانت من نصيب الإبن البكر عادة و عزز الملكيات الصغرى و الوسطى ، فارضي بهذا العمل فئتي الفلاحين و المحرومين و قام بسك النقود و رفع قيمتها ، فسهلت المعاملات التجارية فأثرى التجار و رضوا على الحكم و جنب هكذا المدينة ثورة الفلاحين ، و لما سئل هل أعطي الأثينيين أفضل الشرائع ، أجاب لا، بل سننت لهم خير ما يستطيعون أن يعطوه. 
الظروف الثقافية:
 قفز الفكر اليوناني قفزة ضخمة خلال القرن الخامس قبل الميلاد نتيجة التحولات الاقتصادية و الاجتماعية ، و قد عملت الظروف الثقافية في بروز أفكار و علوم شملت جل مجالات الحياة حتى المجال الميتافيزيقي.. و هكذا فقد كانت للإغريق مثلا ديانات متعددة مصدرها عدة آلهة ، حتى يقال أنه عند الإغريق لا تخلو عائلة من إلهها الخاص، و أشهر الآلهة رفس إله السماء، و اله الرلعد و الصواعق و العواصف و هيرا و أثينا آلهة الحكمة و الحرب و الذكاء و أرتميس آلهة الصيد و الغابات و أبولون اله الشمس و هرمس اله المسافرين و التجار و آريس اله الحرب و امروديب اله الحب و الجمال...بالإضافة إلى اله البحر و اله الثمار و اله الخمر و غيرها...هذه الآلهة هي عبارة عن صورة مكبرة عن الإنسان. 
 كما اهتم الإغريق بمعرفة الغيب و الرضوخ لمشيئة الآلهة، كما كان لليونان أعياد تقام بمناسبتها المباريات الرياضية و التمثيليات و المسرحيات ، و هذه الأمور كلها شجعت الفرد الإغريقي على نمو أفكاره بصفة عامة . كما أن الحضارة الإغريقية عرفت نهضة أدبية و فلسفية مثل الشعر و الشعر الغنائي و المسرح و اشتهر العديد من نبغوا في الأدب المسرحي ، بالإضافة إلى الفلسفة ، و فاخر الإغريق بأنهم أنجبوا في عصر واحد ما عجزت عنه بقية العصور و الأمم، كما اهتم الإغريق كذلك بمجال الفنون بأنواعها(النحت ، الموسيقى، الخزف ، فن العمارة ،الفلك، الطب..الخ) 
النظام السياسي:
ما ميز النظام السياسي لدولة المدينة هي تلك الممارسات الديمقراطية المباشرة، حيث يحضر الأفراد الاجتماعات العامة و يختارون بأنفسهم من يثقون فيهم ليقوموا بالأدوار السياسية، و قد تطورت هذه الديمقراطية المباشرة في وقتنا الحالي إلى نظام التمثيل النيابي و هذا بعدما أصبح من الصعب على الدول الحديثة استدعاء مواطنيها ليجتمعوا في مكان واحد و التباحث في قضايا تهم مدينتهم ، و قد عوض هذا بممثلين عن سكان كل مقاطعة لإبداء الآراء في جميع المواضيع المهمة،و عموما فقد عرفت دولة المدينة ممارسة السلطة السياسية عن طريق الهيئات، هذه الهيئات كانت دعامة الرقابة الشعبية على الحكومة.  

الحياء والتواضع

قالت عائشة رضي الله عنها: مكارم الأخلاق عشرة: " صدق الحديث، وصدق اللسان، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، والمكافأة بالصنيع، وبذل المعروف، وحفظ الذمام للجار، وحفظ الذمام للصاحب وقري الضيف ورأسهن الحياء. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الحياء شعبة من الإيمان " . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت " . وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: " من كسا بالحياء ثوبه لم يرى الناس عيبه وعن زيد بن علي عن آبائه يرفعونه: " من لم يستح فهو كافر " قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: " إني لأدخل البيت المظلم أغتسل فيه من الجنابة فأحني فيه صلبي حياء من ربي " ، وقال بعضهم: الوجه المصون بالحياء كالجوهر المكنون في الوعاء. وقال الخواص: إن العباد عملوا على أربع منازل، على الخوف والرجاء والتعظيم والحياء، فأرفعها منزلة الحياء لما أيقنوا أن الله يراهم على كل حال قالوا: سواء علينا رأيناه أو رآنا، وكان الحاجز لهم عن معاصيه الحياء منه. ويقال: القناعة دليل الأمانة، والأمانة دليل الشكر، والشكر دليل الزيادة، والزيادة دليل بقاء النعمة، والحياء دليل الخير كله.                                                                                                                  قال الله تعالى: " واخفض جناحك للمؤمنين " الحجر: 88،. وقال تعالى: " تلك الدار الأخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين " القصص: 83،. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفضل العبادة التواضع " . وقال صلى الله عليه وسلم: " لا ترفعوني فوف قدري، فتقولوا في ما قالت النصارى في المسيح، فإن الله عز وجل اتخذني عبداً قبل أن يتخذني رسولاً " ، وأتاه صلى الله عليه وسلم رجل فكلمه فأخذته رعدة، فقال صلى الله عليه وسلم: " هون عليك، فإني لست بملك إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد " ، وكان صلى الله عليه وسلم يرقع ثوبه، ويخصف نعله، ويخدم في مهنة أهله ولم يكن متكبراً ولا متجبراً، أشد الناس حياء وأكثرهم تواضعاً، وكان إذا حدث بشيء مما أتاه الله تعالى قال: " ولا فخر " . وقال صلى الله عليه وسلم: " إن العفو لا يزيد العبد إلا عزاً فاعفوا يعزكم الله، وإن التواضع لا يزيد العبد إلا رفعة، فتواضعوا يرفعكم الله، وإن الصدقة لا تزيد المال إلا نماء فتصدقوا يزدكم الله " . وقال عدي بن أرطأة لإياس بن معاوية: " إنك لسريع المشية، قال ذلك أبعد من الكبر وأسرع في الحاجة. وخرج معاوية على ابن الزبير وابن عامر، فقام ابن عامر وجلس ابن الزبير، فقال معاوية لابن عامر: اجلس، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من أحب أن يتمثل له الناس قياماً فليتبوأ مقعده من النار " . وقيل: التواضع سلم الشرف. ولبس مطرف بن عبد الله الصوف وجلس مع المساكين، فقيل له في ذلك، فقال: إن أبي كان جباراً، فأحببت أن أتواضع لربي لعله أن يخفف عن أبي تجبره، وقال مجاهد: إن الله تعالى لما أغرق قوم نوح شمخت الجبال وتواضع الجودي فرفعه فوق الجبال، وجعل قرار السفينة عليه. وقال الله تعالى لموسى عليه السلام: " هل تعرف لم كلمتك من بين الناس؟ قال: لا يا رب. قال: " لأني رأيتك تتمرغ بين يدي في التراب تواضعاً لي " . وقيل: من رفع نفسه فوق قدره استجلب مقت الناس. وقال أبو مسلم صاحب الذخيرة: ما تاه إلا وضيع ولا فاخر إلا لقيط، وكل من تواضع لله رفعه الله. فسبحان من تواضع كل شيء لعز جبروت عظمته، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.                                                                                                            

أشعار قيلت في التواضع والحياء

الحياء

 ورُبَّ قبيحة ماحال بيني * وبين ركوبها إلا الحياءُ

 فكان هو الدواء لها ولكن * اذا ذهب الحياء فلا دواءُ

 اذا لم تصن عٍرضاً ولم تخش خالقاً * وتستحي مخلوقاً فما شئت فاصنعٍ

التواضع

 وأقبح شيئ أن يرى المرء نفسه   *    رفيعــــاً وعند العالمين وضيعُ

 تواضع تكن كالنجم لاح لناظـــــر  *  على صفحات الماء وهو رفيــعُ

 ولاتكن كالدخان يعلــــــو بنفسه * علــى طبقات الجو وهو وضيعُ


الحـــــــوار

يؤكد المهتمون بأدبيات التربية بأن الحوار من أهم أدوات التواصل الفكري والثقافي والاجتماعي والاقتصادي التي تتطلبها الحياة في المجتمع المعاصر لما له من أثر في تنمية قدرة الأفراد على التفكير المشترك والتحليل والاستدلال، كما ان الحوار من الأنشطة التي تحرر الإنسان من الانغلاق والانعزالية وتفتح له قنوات للتواصل يكتسب من خلالها المزيد من المعرفة والوعي، كما انه طريقة للتفكير الجماعي والنقد الفكري الذي يؤدي إلى توليد الأفكار والبعد عن الجمود ويكتسب الحوار أهميته من كونه وسيلة للتآلف والتعاون وبديلاً عن سوء الفهم والتقوقع والتعسف.

ومفهوم الحوار:

 لغة: الجواب، وقيل المحاورة: المجاوبة والتحاور والتجاوب.

واصطلاحاً:

 حوار يجري بين اثنين أو أكثر حول موضوع محدد للوصول إلى هدف معين.

ولقد أكد ديننا الإسلامي على قيمة الحوار وأهميته في حياة الأمم والشعوب، وذلك من خلال ما ذكره الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز حيث قال سبحانه {أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن}، وهذا توجيه حكيم إلى أمة محمد بأهمية استخدام الحكمة والحوار في دعوة الناس إلى طريق الحق من خلال الحوار الهادف والتذكير بالله والمجادلة بالكلم الطيب مما يشير إلى قيمة كبيرة في حياة كل مسلم وهي استخدام الكلمة الطيبة والدعوة الصادقة في التعامل مع الناس وفي حوار الآخر وفي التأكيد على قيمة الرفق بالآخر والصبر وإظهار محاسن الدين بالقدوة الحسنة.

 الحوار: من المُحاورة؛ وهي المُراجعة في الكلام.

 الجدال: من جَدَلَ الحبل إذا فَتَلَه؛ وهو مستعمل في الأصل لمن خاصم بما يشغل عن ظهور الحق ووضوح الصواب، ثم استعمل في مُقابَلَة الأدلة لظهور أرجحها.

 والحوار والجدال ذو دلالة واحدة، وقد اجتمع اللفظان في قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} (المجادلة:1) ويراد بالحوار والجدال في مصطلح الناس: مناقشة بين طرفين أو أطراف، يُقصد بها تصحيح كلامٍ، وإظهار حجَّةٍ، وإثبات حقٍ، ودفع شبهةٍ، وردُّ الفاسد من القول والرأي.

 وقد يكون من الوسائل في ذلك: الطرق المنطقية والقياسات الجدليَّة من المقدّمات والمُسلَّمات، مما هو مبسوط في كتب المنطق وعلم الكلام وآداب البحث والمناظرة وأصول الفقة.

 غاية الحوار:

 الغاية من الحوار إقامةُ الحجة، ودفعُ الشبهة والفاسد من القول والرأي. فهو تعاون من المُتناظرين على معرفة الحقيقة والتَّوصُّل إليها، وثَمَّت غايات وأهداف فرعية أو مُمهِّدة لهذا الغاية منها:

- إيجاد حلٍّ وسط يُرضي الأطراف

- التعرُّف على وجهات نظر الطرف أو الأطراف الأخرى

- البحث والتنقيب، من أجل الاستقصاء والاستقراء في تنويع الرُّؤى والتصورات المتاحة

 وقوع الخلاف بين الناس:

 الخلاف واقع بين الناس وهو سنَّة الله في خلقه، {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (هود:119)

 يقول الفخر الرازي: "والمراد اختلاف الناس في الأديان والأخلاق والأفعال"إلا أن الله وضع على الحقِّ معالمَ، وجعل على الصراط المستقيم منائرَ.. وعليه حُمِلَ الاستثناء في الآية في قوله: {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} (هود:119) وهو المنصوص عليه في الآية الأخرى في قوله: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} (البقرة:213)

 مواطن الاتفاق:

 إنّ بِدْءَ الحديث والحوار بمواطن الاتفاق طريق إلى كسب الثقة وفُشُوِّ روح التفاهم، ويصير به الحوار هادئاً وهادفاً.  ومما قاله بعض المُتمرّسين في هذا الشأن:

 دَعْ صاحبك في الطرف الآخر يوافق ويجيب بـ(نعم)، وحِلْ ما استطعت بينه وبين (لا) ويُعين على هذا المسلك ويقود إليه؛ إشعارك مُحدثَّك بمشاركتك له في بعض قناعاته؛ وقد قال علماؤنا: إن أكثر الجهل إنما يقع في النفي؛ الذي هو الجحود والتكذيب؛ لا في الإثبات، لأن إحاطة الإنسان بما يُثْبتُه أيسر من إحاطته بما ينفيه؛

 أصول الحوار:

 الأصل الأول:

 سلوك الطرق العلمية والتزامها، ومن هذه الطرق:

1 - تقديم الأدلة المُثبِتة أو المرجِّحة للدعوى

2 - صحة تقديم النقل في الأمور المنقولة

 الأصل الثاني:

 سلامة كلامِ المناظر ودليله من التناقض؛ فالمتناقض ساقط بداهة.

 ومن أمثلة ذلك ما ذكره بعض أهل التفسير من:

-  وصف فرعون لموسى عليه السلام بقوله: {سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} (الذريات:39)

- نعت كفار قريش لآيات محمد صلى الله عليه وسلم بأنها سحر مستمر، كما في قوله تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} (القمر:2)

 الأصل الثالث:

 ألا يكون الدليل هو عين الدعوى؛

 الأصل الرابع:

 الاتفاق على منطلقات ثابتة وقضايا مُسَلَّمة.

 الأصل الخامس:

 التجرُّد، وقصد الحق، والبعد عن التعصب، والالتزام بآداب الحوار:

 إن إتباع الحق، والسعي للوصول إليه، والحرص على الالتزام؛ وهو الذي يقود الحوار إلى طريق مستقيم لا عوج فيه ولا التواء، أو هوى الجمهور، أو الأتْباع.. والعاقل ـ فضلاً عن المسلم ـ الصادق طالبٌ حقٍّ، باحثٌ عن الحقيقة، ينشد الصواب ويتجنب الخطأ.

 الأصل السادس:

 أهلية المحاور:

 إذا كان من الحق ألا يمنع صاحب الحق عن حقه، فمن الحق ألا يعطى هذا الحق لمن لا يستحقه، كما أن من الحكمة والعقل والأدب في الرجل ألا يعترض على ما ليس له أهلاً، ولا يدخل فيما ليس هو فيه كفؤاً.

 الأصل السابع:

 قطعية النتائج ونسبيَّتها:

 من المهم في هذا الأصل إدراك أن الرأي الفكري نسبيُّ الدلالة على الصواب أو الخطأ، والذي لا يجوز عليهم الخطأ هم الأنبياء عليهم السلام فيما يبلغون عن ربهم سبحانه وتعالى. وما عدا ذلك فيندرج تحت المقولة المشهورة "رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي الآخر خطأ يحتمل الصواب.

 آداب الحوار:

- التزام القول الحسن، وتجنب منهج التحدي والإفحام:

 {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَن} (الاسراء: 53). {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن} (النحل: 125

 {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} (البقرة: 83)

 فحق العاقل اللبيب طالب الحق، أن ينأى بنفسه عن أسلوب الطعن والتجريح والهزء والسخرية، وألوان الاحتقار والإثارة والاستفزاز.

 {وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (الحج: 68-69)

 وقوله: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} (سـبأ:24). مع أن بطلانهم ظاهر، وحجتهم داحضة.

 ويلحق بهذا الأصل: تجنب أسلوب التحدي والتعسف في الحديث، ويعتمد إيقاع الخصم في الإحراج،

- الالتزام بوقت محدد في الكلام:

 ينبغي أن يستقر في ذهن المُحاور ألا يستأثر بالكلام، ويستطيل في الحديث، ويسترسل بما يخرج به عن حدود اللباقة والأدب والذوق الرفيع.

- حسن الاستماع وأدب الإنصات وتجنب المقاطعة

- تقدير الخصم واحترامه، ينبغي في مجلس الحوار التأكد على الاحترام المتبادل من الأطراف،

- حصر المناظرات في مكان محدود، يذكر أهل العلم أن المُحاورات والجدل ينبغي أن يكون في خلوات محدودة الحضور؛

- الإخلاص: 

 هذه الخصلة من الأدب متمِّمة لما ذكر من أصل التجرد في طلب الحق، فعلى المُحاور ان يوطِّن نفسه، ويُروِّضها على الإخلاص لله في كل ما يأتي وما يذر في ميدان الحوار وحلبته.ومن الجميل، وغاية النبل، والصدق الصادق مع النفس، وقوة الإرادة، وعمق الإخلاص؛ أن تُوقِفَ الحوار إذا وجدْت نفسك قد تغير مسارها ودخلتْ في مسارب اللجج والخصام، ومدخولات النوايا. وهذا ما تيسر تدوينه والله وليُّ التوفيق، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.


الحضارة

تكتسب "الحضارة" قيمتها باعتبارها الهدف الأسمى في تطور المجتمعات الإنسانية، والمثير أن المفهوم ذاته ما زال مبهمًا، فما المقصود بالحضارة ؟ وما مقوماتها وعناصرها؟ وما علاقة الحضارة بالمدنية؟ وهل المصطلحان مترادفان أم أن هناك فارقًا بينهما؟..

حضارة "المدينة" الغربية

يعد لفظ "الحضارة" هو الترجمة الشائعة للفظة الإنجليزية "Civilization"، والتي يعود أصلها إلى عدة جذور في اللغة اللاتينية؛ "Civilties" بمعنى مدنية، و"Civis" أي ساكن المدينة، و"Cities" وهو ما يُعرف به المواطن الروماني المتعالي على البربري. ولم يُتداول الاشتقاق "Civilization" حتى القرن الثامن عشر، حين عرفه دي ميرابو في كتابه "مقال في الحضارة" باعتباره رقة طباع شعب ما وعمرانه ومعارفه المنتشرة بحيث يراعي الفائدة العلمية العامة.

ويبدو أن ما عناه غالبية من استخدموا الكلمة لأول مرة هو مزيج من الصفات الروحية والخلقية التي تحققت على الأقل بصورة جزئية في حياة البشر في المجتمع الأوربي.

وفي الواقع فإن اشتقاق لفظ "Civilization" من مفهوم "Cities" بمعنى مدينة قد طرح ظلاله على دلالات اللفظ الأول؛ فاستنادًا إلى تقسيم لامبادر مرت المدينة بثلاث مراحل في أوروبا:

1.  مرحلة المدينة ما قبل الصناعية: ظهرت المدينة في أوروبا منذ عهد الإغريق، وكانت عبارة عن وحدة سياسية متكاملة لها حكومة مستقلة ونظام سياسي خاص، ومع دخول المسيحية في أوروبا تمركزت المدينة الأوروبية حول الكاتدرائية، خصوصًا في ظل تدهور وظيفة المدينة في الإدارة المدنية، ومع بداية الحروب الإسلامية المسيحية اتخذت المدن الأوروبية الطابع العسكري التجاري بجانب الطابع الديني، ولاحقًا تراجع دور المدينة وتدنى مستوى المعيشة بها لتدخل العصور المظلمة.

2.  مرحلة المدينة الصناعية: كنتاج لظهور الثورة الصناعية اتسعت المدن الأوروبية، وتمركز حولها عدد كبير من العمال والمنظمين بعد انتقالهم من الريف، وتحولت المدينة إلى موطن لاقتصاد السوق والسلطة السياسية متجهة نحو بلورة تاريخ العالم في تاريخ المدينة.

3.   مرحلة المتروبوليتان: هي مرحلة التطور للمدينة بعد التوسع الرأسمالي والتطور التكنولوجي وظهور شركات عابرة القارات والمنظمات الدولية، حيث ظهرت مراكز عالمية تمثل بؤرًا تتشابك حولها مدن مختلفة ومتباعدة المكان، غير أنها ترتبط "بالمدينة - الأم" برباط وثيق.

وقياسًا على ذلك تجيء التعريفات لمفهوم "Civilization"، فمثلا يعرفه وول ديورانت بأنه "نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة في إنتاجه الثقافي، ويتألف من عناصر أربعة: الموارد الاقتصادية، والنظم السياسية، والتقاليد الخلقية، ومتابعة العلوم والفنون". ولم يمنع ذلك حدوث تداخل كبير في تناول الفكر الأوروبي لمفهوم "Civilization"، فهناك من جعل المفهوم مرادفًا لمفهوم الثقافة، وهناك من جعله قاصرًا على نواحي التقدم المادي مثل أصحاب الفكر الألماني، وهناك من جعله شاملاً لكل أبعاد التقدم مثل المفكرين الفرنسيين.

والملاحظ أن جوهر المفهوم اتجه نحو تلخيص تطور نمط الحياة الأوروبي بكل أبعاده باعتباره المجتمع الأكثر رقيًا أو هو قمة التطور البشري، وقد انعكس ذلك على التقسيمات المقترحة لمراحل التطور البشري التي غالبًا ما تسير في حركة أحادية للتاريخ متجهة نحو النموذج الأوروبي في التطور الصناعي.

الحضارة في القراءة العربية:

وفي بدايات القرن العشرين، ومع دخول الاستعمار الأوروبي إلى الدول العربية، انتقل لفظ "Civilization" إلى القاموس العربي، وقد حدث اضطراب واضح في المفاهيم لعدم وضوح تعريفات ألفاظ: "ثقافة" و"حضارة" و"مدنية" خاصة مع وجود المفاهيم الثلاثة في اللغة العربية على حين لا يوجد سوى مفهومين في اللغة الإنجليزية، مما أدى إلى انقسام اتجاهات ترجمة المصطلح إلى اتجاهين:  

مفهوم اللفظ "مدنية:

على الرغم من عدم شيوع هذه الترجمة لمفهوم "Civilization" إلا أنها أكثر دقة في اختيار اللفظ العربي، وقد بدأ هذا الاتجاه منذ أوائل القرن التاسع عشر، حيث تُرجم في عهد محمد علي باشا كتاب "إتحاف الملوك الألباب بسلوك التمدن في أوروبا"، كما استخدم رفاعة الطهطاوي في كتابه "مناهج الألباب المصرية" مفهوم التمدن في التعبير عن مضمون المفهوم الأوروبي ومشيرًا لوجود بُعد التمدن في الدين والشريعة.

وظل هذا الاستخدام لمفهوم المدنية سائدًا حتى وقت قريب وبالدلالات والمعاني نفسها التي تمثل بها مفهوم "Civilization"، فقد استخدم المفهوم عام 1936م على أنه "حالة من الثقافة الاجتماعية تمتاز بارتقاء نسبي في الفنون والعلوم وتدبير الملك"، وكذلك أطلق عام 1957م على الظواهر المادية في حياة المجتمع مقابل إطلاق لفظ الحضارة على "Culture"، قاصدًا الظواهر الثقافية والمعنوية في هذه الحياة، حيث المدنية تنقل وتورث، بينما الحضارة "Culture" إنتاج مستقل يصعب اقتباسها ونشرها.

ويختلف الباحثون حول تحديد الجذر اللغوي لكلمة "المدنية" فيرجعها البعض إلى "مدن" بمعنى أقام في المكان، ويرجعها آخرون إلى "دان" وهي جذر مفهوم الدين وتعني خضع وأطاع، و أيًّا كان مصدرها فقد اقترن اللفظ بتأسيس الدولة الإسلامية، وارتبط بمفهوم الدين بما يعنيه من دلالات الطاعة والخضوع والسياسة، ولقد ارتبطت المدينة في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- بنظام مجتمعي حياتي وتنظيمي جديد في الجزيرة العربية ارتكز على القيم الإسلامية والمبادئ التنظيمية المنبثقة عنها.

وعلى خلاف التجربة الغربية، فالمدينة في الخبرة الإسلامية هي نتيجة لوجود قيم التهذيب والعلاقات الاجتماعية والسياسية في الدين الإسلامي، وليست سببًا فيها. ومن ناحية ثانية، فقد بدأت المدينة في الخبرة الإسلامية مما انتهت عليه المدينة في التجربة الأوروبية "مرحلة المتروبوليتان"، أي المدينة التي تتبعها مدن أخرى وترتبط بها) فقد كانت المدن الإسلامية جميعها حواضر راقية تتبعها مئات المدن الأخرى المنتشرة في الإمبراطورية الإسلامية، على سبيل المثال: كانت المدينة المنورة ثم الكوفة وقرطبة والآستانة مراكز للإمبراطورية الإسلامية على مر تاريخها.

 ومن ناحية ثالثة، إذا كان تطور المدينة الأوروبية المعاصرة يعد دليلاً على الرقي الإنساني -طبقًا للفكر الغربي- فإن ابن خلدون اعتبر ذات الصورة من رفاهية العيش والاستهلاك طورًا تحدث فيه اختلالات في تطبيق منظومة القيم الإسلامية والضوابط التي تحدد حدود الإنسان، ومنهج تفاعله في الكون، وبالتالي تنافي مفهوم استخلاف الإنسان في الأرض، واعتبر أن مؤشر ذلك هو سكنى الحضر والمدن -مرحلة الحضارة-، وبالتالي فهي لديه نهاية العمران وخروجه إلى الفساد ونهاية الشر والبعد عن الخير.

اللفظ العربي "حضارة: يُعد هذا الاتجاه هو الأكثر شيوعًا في الكتابات العربية ابتداء من الربع الثاني من القرن العشرين، وبملاحظة التعريفات المقدمة لمفهوم "الحضارة" نلحظ أنها هي نفسها التعريفات التي وضعت إزاء "المدنية"، فالخلاف لفظي والمحتوى واحد وهو المضمون الأوروبي. فعادة، يربط مفهوم الحضارة إما بالوسائل التكنولوجية الحديثة، أو بالعلوم والمعارف والفنون السائدة في أوروبا، أي خلاصة التطور الأوروبي الحالي. وينطلق هؤلاء من أن الحضارة هي جملة الظواهر الاجتماعية ذات الطابع المادي والعلمي والفني الموجود في المجتمع، وأنها تمثل المرحلة الراقية في التطور الإنساني.

بالنظر إلى تطور المفهوم في الكتابات العربية في العلوم الاجتماعية لوحظ أنها تخرج عن ذات الدلالات للمفهوم في الفكر الأوروبي؛ الذي يوحي بعالمية العلم والمنهج والمفاهيم وبالتالي الحضارة.                                     .    
الحضارة…حضور وشهادة:

والواقع أن مفهوم الحضارة في الفكر واللغة العربية قد يبدو متوافقًا مع جذور المفهوم الأوروبي "Civilization" -خاصة استخدام ابن خلدون- حين تحدث عن "الحضارة" تلك المشتقة من الإقامة في الحضر بخلاف البادية، ويأتي اللبس من رجوع الباحثين إلى القواميس العربية-حاملين تحيزات مسبقة-لاستخدام الحضارة بمعنى الإقامة في الحضر دون باقي الاستخدامات الأخرى.

 فلغويًّا، يذكر مفهوم الحضارة للدلالة أولاً على الحضور أو الشهادة التي هي نقيض المغيب، فمثلاً حضر في القرآن الكريم تعني شهد: "إذا حضر أحدكم الموت" [البقرة:180]، "وإذا حضر القسمة أولو القربى" [النساء:8]                                                       وللشهادة أربعة معانٍ متكاملة تمثل جزءاً من بناء مفهوم الحضارة:

1

-

الشهادة بمعنى التوحيد والإقرار بالعبودية لله -عز وجل- وهي محور العقيدة الإسلامية وعليها يتحدد التزام الإنسان بمنهج الخالق -عز وجل- أو الخروج عنه.

2

-

الشهادة بمعنى قول الحق وسلوك طريق العدل، وتعد مدخلاً من مداخل العلم ووسيلة من وسائل تحصيل المعرفة.

3

-

الشهادة بمعنى التضحية والفداء في سبيل الله -سبحانه وتعالى- حفاظًا على العقيدة.

4

-

الشهادة كوظيفة لهذه الأمة "وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدًا" [البقرة:143]، وينصرف معناها إلى الشهادة في الدنيا والآخرة، حيث تكون أمة قوية تقوم على العدل وتعمل به وتدعو إلى عبادة الله وحده.

وطبقًا لذلك فإن "الحضارة" في الأصول الإسلامية ينتج عنها نموذج إسلامي يستبطن قيم التوحيد والربوبية، وينطلق منها بعد غيبي يتعلق بوحدانية خالق هذا الكون، ومن ثم فإن دور الإنسان ورسالته هو تحقيق الخلافة عن الخالق في تعمير أرضه وتحسينها، وبناء علاقة سلام مع المخلوقات الأخرى أساسها الدعوة إلى سعادة الدنيا والآخرة.

والواقع أن أي تجربة بشرية يمكن إطلاق لفظ حضارة عليها ما دامت تتوافر فيها الشروط التالية:

1

-

وجود نسق عقدي يحدد طبيعة العلاقة مع عالم الغيب ومفهوم الإله سلبًا أو إيجابًا.

2

-

وجود بناء فكري سلوكي في المجتمع يشكل نمط القيم السائدة وهي الأخلاقيات العامة والأعراف.

3

-

وجود نمط مادي يشمل جميع الأبعاد المادية في الحياة.

4

-

تحديد نمط العلاقة مع الكون ومسخراته وعالم أشيائه.

5

-

تحديد نمط العلاقة مع الآخر، أي المجتمعات الإنسانية الأخرى وأسلوب إقناعها بهذا النموذج والهدف من ذلك الإقناع.

 وتأسيسًا على ذلك، فأن وحدة الأصل الإنساني لا تستلزم بالضرورة وحدة معارفه وعلومه ومناهجه، وبالتالي فتنافس الحضارات أمر منطقي تفرضه طبيعة الوجود البشري ومعطياته؛ لأن الاختلاف سُنة من سنن الله في الكون: "ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم" [الروم:22].                                                                  .
خلاصة القول إن مفهوم الحضارة أو المدنية قد تمحور في الفكر الإسلامي حول قيم العقيدة الإسلامية، والتي مثلت الشرعة والمنهاج للممارسة الإسلامية على العكس من النموذج الغربي الذي اشتق مفرداته من تطوره التاريخي وواقعه المعاشي
 


الحجاج البرهان و

كثيرا ما يقال أن حقل الفلسفة هو حقل توليد المشكلات وإثارة الأسئلة، وهو أيضا حقل تتواجد فيه الأجوبة بنفس قدر تواجد الأسئلة والإشكالات، غير أن طبيعة الجواب في الفلسفة مبرهن عليه، يقوم على الحجاج والمحاجة. وهو يتميز عن البرهان، لأن هذا الأخير يشكل خاصية للعلم، في حين يشترط الحجاج استهداف إقناع المتحاور أو المتلقي وإحداث أثر لديه، وبالرغم من هذا التمييز فإمكانية حضورهما معا في الخطاب الفلسفي واردة مع غلبة الجانب الحجاجي.

    إن الحجاج تقنية يستعملها الفيلسوف من أجل حمل/ دفع أكبر عدد من ممكن من المتلقين على قبول خطابه والاقتناع بآرائه، إنه عملية إقناعية تأثيرية بطريقة عقلية. من جهة، ومن جهة أخرى، الحجاج عملية تستعمل لدحض وتفنيد أطروحة الخصوم وذلك بإظهار ضعفها أو عدم صلاحيتها.

يحدد لالاند في قاموسه الفلسفي معنى الحجاج، وذلك بتقديم المعطيات التالية:

- المحاجة أو الحجاج: هي سلسلة من الحجج تنتهي بشكل كلي إلى تأكيد نفس النتيجة، كما يرى بأن الحجاج طريقة في تنظيم واستعراض الحجج أو تقديمها.

- الحجة: ويعتبرها بمثابة استدلال موجه لتشريع أو دحض قضية معينة، أو تفنيدها، ويرى من ناحية أخرى أن البعض ينتهي إلى اعتبار كل حجة دليلا.

- الدليل: إنه عملية توجه التفكير العقلي بصورة يقينية ومقنعة. وبذلك يتخذ الدليل صورة استدلال تصير فيه النتائج منسجمة مع المقدمات التي انطلقت منها. ويحيل الدليل من جهة أخرى إلى الواقع، ليأخذ من ثمة مضمونا ماديا تصبح بموجبه الوقائع والأحداث والوثائق بمثابة أدلة. ويتميز الدليل عن الأشكال الأخرى للاستدلال بميزة الحقيقة. إذ أن كل ما يحمل عليه يعتبر في غالب الأحيان حقيقيا.

- البرهنة: هي استنباط يوجه لتأكيد أو إثبات سبق نتيجة، وذلك بالاستناد إلى مقدمات معترف لها بميزة الصدق أو الحقيقة.

أما معجم فولكيي فيقدم لنا نفس المعطيات تقريبا التي وردت في قاموس لالاند، وإن كان يتوسع في ذلك، وتفاديا للتكرار نكتفي باستعراض مدلول الحجة أو الحجاج.

يعتبر فولكيي الحجة بكونها اعتبارا موجها لإثبات أطروحة أو دحضها، وبهذا المعنى ترادف الحجة الدليل، أو الاستدلال والتبرير.

      نسمي إذن حجاجا تلك الطريقة التي تسلكها الفلسفة في إضفاء طابع التماسك على ما تنسجه من مفاهيم تمنح للمعيش دلالته. وقد وظفها جيل غاستون كرانجي كمرادف للبرهنة الفلسفية، التي تكمن في الاستعمال المنظم للمفاهيم. والحال أن هذا الاستخدام إذا جرد من قصده الفلسفي، أي إن لم يراع فيه القصد الذي ينشده التفكير الفلسفي، فإنه سيصير مطابقا للتقنين أو التعقيد المنطقي. إلا أن هذه المطابقة ليست في الواقع إلا مظهرية، الشيء الذي يستوجب البحث عن دواعي استخدام الحجة والدليل، وكيفيات تمظهرهما في الفلسفة في موضع آخر غير المنطق.

وأول ميزة تنفرد بها الحجة في الفلسفة هي ميزة التبرير. لكن ينبغي التمييز بين التبرير الفلسفي وكل أشكال إقامة الدليل في مجالات المعرفة الموضوعية بصفة خاصة. هذا التمايز ينبغي تدقيقه نظرا للاعتبار الآتي: إذا كان نمط أو شكل التعبير، يحظى بأهمية ما في المعرفة الموضوعية، فإنه لا يشكل مع ذلك جزءا محايثا لعملية التصديق أو الإثبات فيها. إنه من الممكن دائما الفصل في هذه المعرفة بين محمول البرهنة وموضوعها، وبتعبير كرانجي نفسه، الفصل بين الجهازين البلاغي والتحليلي فيها. هذا الفصل الذي تقتضيه طبيعة هذه المعرفة من جهة، مثلما تقتضيه ضرورة تبليغها من جهة ثانية.

لكن هل يمكن أن يتم ذلك في مجال المعرفة الفلسفية؟ الواقع، أنه في الفلسفة لا يمكن الفصل بين ما يقال والشكل الذي يقال به، بين ما تحمل عليه هذه المعرفة الفلسفية، والطريقة التي تحمل بها عليه. وحتى إذا أمكن القيام بهذا الفصل فإن هذه المهمة تبدو صعبة جدا. ومن هنا فإن التعاطي للمعرفة الفلسفية كنتاج مجرد ومتخارج عن المؤلفات الفلسفية، أمر غير ممكن في الوقت الذي يكون فيه التعامل مع إنتاجات العلماء بمعزل عن مذكراتهم أمرا ممكنا. والأكيد أن هذا الارتباط بين الموضوع والمحمول، هو بالضبط ما يشكل خصوصية الفلسفة، وما يمنح للحجاج وللمفهمة وضعهما المتميز والمنفرد داخل الخطاب الفلسفي.

نسجل إذن أن الاستدلال الفلسفي يتميز عن أشكال الاستدلال الأخرى الواردة في الخطابات والمعارف غير الفلسفية، خاصة منها المعرفة العلمية. ويتميز الاستدلال الفلسفي بكونه لا يقبل الاختزال في فعل البرهنة أو الإظهار والإبانة أو لربما حتى في فعل الوصف.

البرهنة في الفلسفة إذن ليست هي نفسها في مجال العلم حيث تتخذ صيغة رياضية منطقية تترابط فيها النتائج مع المقدمات بشكل فرضي استنباطي، أو نزعة تجريبية تخضع فيها الفرضيات لمبدأ التحقق التجريبي. إن ما يحيل إليه الاستدلال الفلسفي ليس هو مواضيع محددة تستمد منها المفاهيم بصفة مباشرة، وتنطبق عليها هذه الأخيرة انطباقا وثوقيا. إن الأمر في الفلسفة يتعلق بالإفصاح والإظهار وليس بالمطابقة. على أساس ألا نرى في الإظهار إشارة أو تعيينا لموضوع ما، قابل للإمساك والامتلاك. إن فعل الإظهار في الفلسفة ليس مجرد مرآة تنعكس عليها المواضيع، إنه لا يتجه مباشرة إلى مواضيع، بنفس الشكل الذي يتجه به إليها مجرد الإدراك والتمثل، بل يتجه نحو فعل ما، يتعين على المتلقي أن ينتجه لنفسه ولفائدته. إن مجاله هو مجال الدلالة، لذلك يأتي الخطاب الفلسفي دائما كخطاب من مستوى ثان، أي كخطاب واصف إن الاستدلال الفلسفي إذن، ليس استدلالا من نمط المنطق الصوري، وليس مجرد عمليات منطقية يمكن تشغيلها باستقلال تام عن أية إحالة موضوعية. إن اعتقادا من هذا القبيل يجعل من الاستدلال الفلسفي صورة للاستدلال المنطقي والرياضي، ينتهي إلى تجريده من كل علاقة بالمعيش؛ إنه يجعل منه استدلالا قادرا على أن يحمل على كل شيء وعلى لا شيء في نفس الآن. إن ما يميز الفلسفة بالضبط هو نزوعها أو ميلها إلى النطق بالمعيش في شموليته. إنها لا تصل في مرجعيتها إلى موضوع معزول ومقتطع من تجربة معينة، بقدر ما تحيل على تلك التجربة في كليتها وشموليتها.

إن ما نستنتجه مع جيل كاستون كرانجي من خلال مقاربته للحجاج الفلسفي يمكن صياغته حسب الشكل الآتي: "إن الفلسفة معرفة بدون مواضيع، وأن مسلكها الحجاجي لا يقوم على البرهنة، هكذا يكون الوصف الصائب للفلسفة. بالإضافة إلى ذلك، فإن هذه الأخيرة لا تنطلق من مبادئ صريحة ومعبر عنها، ولا تقود إلى أية حقيقة. وبالتالي ينبغي التأكيد على أن الأمر لا يتعلق هنا بميل إلى التشكيك أو الريب، بل يتعلق على العكس من ذلك بأنه من الممكن أن تحفظ للتفلسف مصداقيته وللفلسفة جدواها، وفي نفس الوقت استبعاد ذلك الاعتقاد الذي يطابق بين الفلسفة/التفلسف وفرض فكرة مذهبية معينة، وذاك الذي يفرض الاعتقاد بإمكان قول كل شيء في الفلسفة".

إن الفلسفة إذن لا تتخذ في صياغتها الحجاجية البرهان أو البرهنة بالمعنى الذي يتم في العلم، وبالتالي فإن استدلالها لا يتخذ نفس الصورة التي نصادفها في أنماط الاستدلال المتداولة في نطاق المعارف الأخرى.

وإذا أكدنا سابقا على أن ارتباط الفلسفة باللغة، واستناد الخطاب الفلسفي إلى مختلف مكوناتها في تشييد أنساقه وبناء قضاياه، فإن ذلك يستلزم أن نتحدث عن الحجاج بمفهومه الواسع: أي أن نستحضر البلاغة وأشكال التعبير المختلفة التي تجود بها اللغة، ثم المنطق وجميع طرق التفكير والاستدلال التي توظف في الفلسفة، لكن بمراعاة خصوصية هذه الأخيرة.

    إن استخراج البنية الحجاجية إذن وضبطها، والاشتغال بها كأداة ووسيلة داخل الكتابات الإنشائية الفلسفية، يعد كفاءة منهجية تقتضي التدريب والتمرين والعمل الجاد، لأنه لا يمكن الحديث عن أي اشتغال في الفلسفة، وعن أي تفلسف بدون تملكها.


الاتحاد الأوربي بين الاندماج والمنافسة

مقدمـة

 

يمثل الإتحاد الأوربي نموذجا للتكتلات الإقليمية المعاصرة،غير أنه يعرف حالات اندماج وحالات منافسة.- فما مجالات ومظاهر الاندماج بين دول الاتحاد؟- وما أوجه المنافسة التي يواجهها؟

 

1 -  تتنوع مجالات الاندماج ومراحله، وتختلف عوامله

 

1- 1 - مجالات الاندماج ومراحله الكبرى

 

 تتعدد مجالات الاندماج المجالي بين دول الاتحاد الأوربي، وهي:• المجال السياسي: تم توحيد السياسة الخارجية والأمن والدفاع المشترك مع مراقبة الحدود، كما تم وضع مشروع الدستور الاوربي ليكون أسمى قانون يوحد البلدان.• المجال الاقتصادي: تم تطبيق حرية تنقل الأشخاص والخدمات والرساميل،مع وضع سياسة فلاحية مشتركة وسك عملة موحدة (الأورو).• المجال الاجتماعي: عمل الاتحاد الأوربي على تنمية الشغل وتحسين ظروف العيش وتطبيق المساواة بين الرجل والمرأة مع توحيد قانون الشغل.• المجال البيئي: يولي الاتحاد أهمية كبرى لحماية وتحسين جودة البيئة مع الاستعمال الآمن والمعقلن للموارد الطبيعية. مرت سيرورة الاندماج بين بلدان الاتحاد الأوربي بثلاث مراحل كبرى:• المرحلة الأولى: إنشاء منطقة التبادل الحر وتطبيق الوحدة الجمركية،حيث تم إلغاء حقوق الجمارك ووضع تعرفة خارجية موحدة.• المرحلة الثانية: تم إنشاء سوق موحدة تضمن تنقل السلع والرساميل والخدمات وحرية تنقل اليد العاملة.• المرحلة الثالثة: تطبيق الوحدة الاقتصادية والمالية بالعمل على الاندماج الاقتصادي والمالي مع توحيد السياسة المالية والجبائية.

 

1- 2 - تعددت عوامل اندماج الاتحاد الأوربي

 

لعبت عدة عوامل دورا كبيرا في تسهيل عملية اندماج بلدان الاتحاد الأوربي فهناك الوحدة الجغرافية  التي تتجلى في الانتماء للقارة الأوربية مع التاريخ والمصير المشترك، أي محاولة تجاوز مخلفات الحروب والأزمات السابقة.    ساعدت طبيعة الأنظمة السياسية والاقتصادية الأوربية التي تتبنى النظام الرأسمالي الديمقراطي الملتزم باقتصاد السوق وحقوق الإنسان دورا مهما في تسريع عملية الاندماج للعمل على تحدي موجة العولمة والوقوف في وجه المنافسة  الأمريكية واليابانية.

 

2 - الاتحاد الأوربي بين مظاهر الاندماج وأوجه المنافسة

 

1 – 2 - مظاهر اندماج بلدان الاتحاد الأوربي

ااستطاعت دول الاتحاد الأوربي أن تحقق الاندماج في عدة ميادين، ففي:• ميدان السياسة والأمن: تعمل الوكالة الأوربية على مراقبة الحدودوذلك بالقيام بدوريات أمنية مشتركة، والعمل على ضبط الهجرة السرية مع إلغاء الحدود بين دول الاتحاد (اتفاقية شينغن).• في ميدان الاقتصاد والمال: تعمل السياسة الفلاحية المشتركة على الرفع من الإنتاجية وضمان الاستقلال الغذائي بتقديم المساعدة للفلاحين، مما جعل الاتحاد هو ثاني مصدر للمنتوجات الفلاحية، كما أن الأورو أصبح عملة منافسة  للدولار الأمريكي.• في ميدان التكنولوجيا: تعمل شركة أريان إسباس في مجال البرامج الفضائية لصناعة الصواريخ والأقمار الاصطناعية، كما أن طائرة إيرباص تُصنع قطعها بعدة دول أوربية.

2 – 2  أوجه المنافسة بين بلدان الاتحاد

إذا كان الهدف من تأسيس الاتحاد الأوربي هو مواجهة التكتلات الجهوية والمنافسة العالمية، فهذا لم يمنع من وجود منافسة بين بعض الدول المشكلة للاتحاد، حيث أن مبدأ المنافسة كان في قلب البناء التشاركي الأوربي، إذ تقوم مجتمعاتها الاستهلاكية على المنافسة.    تحاول جماعات الضغط بالشركات الأوربية الكبرى أيضا تكريس مبدأ المنافسة للحفاظ على مصالحها، كما أن الدول الأوربية تعمل على عقد اتفاقيات خارجية  تحافظ فيها على مصالحها الوطنية خاصة مع مستعمراتها السابقة.

خاتمـة:

رغم هدف الوحدة والاندماج الذي تسعى دول الاتحاد الأوربي  لتحقيقه، فإن مبدأ المنافسة يعتبر عامل قوة لهذا الاتحاد.


الشعر العربي والحداثة

يكاد الاهتمام بظاهرة الحداثة في الوطن العربي ـ بشكل عام ـ يرجع إلى التحولات الكبيرة التي ظهرت في شتى مناحي حياة الإنسان العربي ـ سياسيا وثقافيا واقتصاديا واجتماعيا . وللحديث عن نشأة هذه الظاهرة وتطورها في الشعر العربي لابد من تقصي أول  حركة تجديدية في التراث الأدبي واتباع سيرورتها عبر مراحلها التاريخية، وقوفا عند  حركة الحداثة في الإنتاج الشعري العربي الحديث. هذا ما سنحاول الاحاطة به هنا.

 

       من ثم، فوجود اتجاهين من الشعراء."اتجاه يعتبر نفسه امتدادا لشعراء العصر العباسي ـ رواد أول حركة تجديدية في الشعر العربي ـ نذكر على رأسهم أبا نواس وأبا تمام، وابن الرومي، والمتنبي، وأبا العلاء، ابن سنا، هؤلاء الشعراء الذين جاءوا بالثقافة اليونانية والبيئة الحضارية الجديدة. فاهتز في وجدانهم هيكل القصيدة العام. فلم يعد ثمة ضرورة لأن يستهل الشاعر قصيدته بالوقوف على الأطلال ولم تعد به حاجة لأن يتجشم عناء الوصول إلى الممدوح على الناقة(…) وظهرت محاولات عديدة لتوحيد موضوع القصيدة بتأثير من المنطق الأرسطي والثقافة اليونانية إجمالا مما هدد قاعدة وحدة البيت بالدمار وساعد على ذلك أيضا التحليق النفسي والفكري لبعض الشعراء كأبي العلاء وابن سنا"

 

       بالإضافة إلى ذلك، هناك أيضا تغيير على مستوى اللغة الشعرية وذلك بسبب دخول ألفاظ يونانية وفارسية، لاحتكاك اللسان العربي بالألسنة الأعجمية. كما تسللت إلى الشعر بعض الألفاظ الفلسفية والعلمية والدينية والصناعية وكثير من الألفاظ العربية ذات المعاني المستحدثة وليدة الحضارة الجديدة

 

       وهناك أيضا تغييرات على مستوى الوزن والقافية، فنجد مثلا لأبي نواس قصائد خرج بها على نظام الأوزان المعروفة. كما أن أبا العتاهية قد اخترع أوزان جديدة. وحاول كذلك بعض الشعراء، الخروج على نظام القافية الواحدة. إذ وجدوا فيها تقييدا لا تحتمله موضوعاتهم الجديدة. من ثم ظهر ما يسمى "بالمزدوجات".

 

       وهناك حركة تجديدية أخرى كان لها أثر كبير في تاريخ الشعر العربي. والتي ظهرت بالأندلس. فقد بدأ فن التوشيح متأثرا ومؤثرا بما كان منتشرا في جنوب فرنسا من شعر شبيه بالموشحات. وهو شعر التروبادور. وإن كان المرجح أن المحاولات الأولى في هذا الفن قد بدأت منذ نهاية القرن الثالث هجري. ومنذ نهاية القرن التاسع عشر بدأت تظهر بوادر التجديد في بعض ما أنتجه فرانسيس مراس الحلبي. وأحمد الشدياق. ونجيب حداد.

 

          وقد كان تجديدهم مقصورا في البداية على التمرد على الموضوعات التي عرفها الشعر القديم، ثم الدعوة من خلال المجلات العربية المعاصرة آنذاك إلى نبذ القديم والأخذ بالجديد وانتهاج أساليب الشعراء الغربيين.

 

        وبعد ذلك ظهرت حركة التجديد في المهجر التي نمت في أحضان الثقافة والشعر الغربيين،"ولعل أبرز الثائرين على القديم جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة، وتستهدف ثورتهما مفهوم الشعر وعناصره الشكلية والموضوعية. فالشعر من حيث مفهومه أصبح رسالة سامية يتنزلها الشاعر من عالم الروح ليؤديها بين الناس كما يقول جبران، أما اللغة فليست ألفاظا جامدة وبيانا وبديعا ومنطقا وإنما هي ترجمة للروح والحياة. أما الأوزان والقوافي فلا يعتبرونها من ضرورة الشعر. فهم لا يراعون وحدة البيت، في وحدة مكتملة، يكون البيت فيها جزءا حيا يكاد يستمد قوته ومعناه من التئامه مع سائر الأعضاء.

 

       وإذا تتبعنا امتدادات الاتجاه الرومانسي والاتجاه الرمزي، فسوف نلتقي مثلا بإلياس أبي شبكة وبسعيد عقل اللذين يأتيان في سيرورة التجديد في الشعر العربي: "يقول أبو شبكة في مقدمته "أفاعي الفردوس" إن الشعر لا يحدد فلا يقاس ولا يوزن، إذ انه تعبير عن الحياة، والحياة لا حدود لها ولا مقاييس. ونجد أيضا سعيد عقل في مقدمة "المجدلية" يؤكد أن الشاعر الحق لا يكون له أفكار وصور وعواطف قبل النظم. وعند النظم، بل يستحيل عليه أن يكتب شعرا إذا توفر له شيء من ذلك.

 

       من خلال هذا العرض التاريخي المتسلسل لحركة التجديد في الشعر العربي منذ العصر العباسي مرورا بالأندلس من خلال فن التوشيح. إلى نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين مع شعراء المهجر والمدرسة الرومانسية والرمزية. فإنه يحق القول فعلا أن الشعر العربي إلى هذا الحد لم يخرج على جوهر التراث الشعري القديم ، فإنهم مهما غيروا من موضوعاتهم وتلاعبوا بالأوزان وبدلوا من القوافي، فإن أهم خصائص عمود الشعر العربي ظلت مسيطرة على جميع تلك الحركات التي كانت تجديدية حقا. ولكنها لم تصل إلى حد الحداثة.

 

       ستأتي موجة الحداثة في الشعر العربي بالفعل بعد الحرب العالمية الثانية عندما نشأت الدعوة إلى تطوير أوزان الشعر وقوافيه بما عرف بحركة الشعر الحر، ثم ظهرت حركة جديدة تدعو إلى فلسفة الشعر العربي ليجد له مكانا في صورة الشعر العالمية المتطورة. هذا وقاد الحركة الأولى شعراء عراقيون على رأسهم نازك الملائكة وبدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي. ثم قاد الحركة الثانية شعراء لبنانيون على رأسهم يوسف الخال الوافد من أمريكا بعد هجرة طويلة وأدونيس بعدما غادر سوريا.

 

       وعليه، "فالشعر العربي الحديث قد استطاع انطلاقا من العراق أن يلعب دوره الرائد والمحفز في مشروع التحول الثقافي والاجتماعي، ولكن هذه الظاهرة ليست حدثا فريدا لا سابقة له، أو لغزا لدى من يعرفون التاريخ العربي جيدا، إن هؤلاء يعلمون أن الروح العربية روح شعرية بامتياز، وأن الشعر العربي كان على الدوام التعبير الأسمى عن تطلعاتها والسجل الوافي لتحركاتها كلها، هكذا تعرض مشروع الشعراء العراقيين إلى حركة الاعتراضات الواسعة من طرف النزعة المحافظة العربية. التي تعرضت هنا للهجوم في واحد من أمتن قلاعها. هذه الهجمة التي كانت في الوقت نفسه بداية لنضال صعب مع الحساسية العامة وسط واحد من أشد ميادينها ارتباطا بالدواخل وهو تعبيرها المميز والأكثر خصوصية."

 

       وقد تطورت المسيرة المجددة التي كان الشعراء العراقيون روادها منذ سنة 1947، ليواصلها العديد من شعراء العرب، هذا التطور جاء على شكل تدريجي بدأ بالتعرض إلى الشكل الوزني للقصيدة العربية، ثم اتجه صوب الأساس الشعري نفسه وعلاقته العضوية مع معمار القصيدة.[8]  وفي سياق هذا التطور الذي فتح الرواد العراقيون جانبا منه، يقول إحسان عباس: "وقد أصبح من المعروف أن الرواد العراقيين: نازك والسياب والبياتي كانوا هم رسل هذه الثورة بتأثير من الشعراء الانجليز، وكانت ثورتهم في شكلها الأولي تمثل تخلصا من رتابة القافية الواحدة. ( دون الاستغناء عن القافية تماما) وتنويعا في عدد التفعيلات في السطر الواحد (دون مبارحة الإيقاع المنظم)… إنما الذي يميز هذه الحركة عن كل ما سبقها أن اعتمادها للشكل الشعري الجديد أصبح مذهبا لا استطرفا، وأن إيمانها بقيمة هذا التحول كان شموليا لا محدودا، وأن أفرادها في حماستهم لهذا الكشف الجديد رأوا وما زالوا يرون. أن هذا الشكل يصلح دون ما عداه وعاء لجميع أنواع التجربة الإنسانية إذا أريد التعبير عنها بالشعر."

 

       وتبقى مسألة مَنْ مِنَ الشعراء العراقيين الثلاثة كان السباق إلى هذه الوجهة الشعرية الجديدة. مثار اهتمام العديد من الدارسين.

 

       ولكن نازك في كتابها "قضايا الشعر العربي المعاصر" تشير إلى أنها أول من نشرت  قصيدة "حرة" عام 1947 ولكنها تعترف في الموضوع نفسه أن بدر شاكر السياب قد نشر في الشهر ذاته مجموعة شعرية تحمل عنوان "أزهار ذابلة" تحتوي على قصيدة حرة تحمل عنوان "هل كان حبا.

 

       وبغض النظر عن مسألة السبق التي كان طرفاها السياب ونازك، فإن عبد الوهاب البياتي لم يتأخر عن الإسهام في الحركة بنشاط يتبعه بعد ذلك آخرون من شعراء العراق وباقي أقطار البلاد العربية.

 

       هكذا، يمكن أن ندرك أن مجيء "البيت الشعري الحر" كان يشكل، في تلك الفترة ظاهرة عامة تطبع تطوير جيل شعري جديد، في العالم العربي. لقد كان البيت الحر يمثل إجابة حتمية لقوى شابة متمردة ضد تراث جامد ومجتمع كان يختنق في ثبات الأشكال التقليدية المتسمة بالقداسة.

 

       وقد تمكنت نازك الملائكة أن تجتاز بسهولة ونجاح، عتبة المسيرة المجددة التي شرعت فيها بكثير من الحذر، والتردد. وإذا كانت قد عملت على تعديل البنية الوزنية في القصيدة، متوصلة إلى تحقيق وحدة معينة بين المضمون والشكل الشعريين. فقد كانت تحرص في الوقت نفسه على عدم الابتعاد عن الأنماط التعبيرية التي شكلت ثورة مدرسة المهجر. وحركة "أبولو"  ومجموع الاتجاهات الرومنطقية والرمزية.

 

        أما السياب فكانت بدايته الشعرية مع الأشكال التقليدية، ثم تطورت بعد ذلك بتكسيره للقيود التقليدية، وتعتبر" أنشودة المطر" بمثابة القمة في تطور شعر السياب، ثم بعد ذلك بدأ في الانحدار الفني.

 

       من هنا يمكن أن نعتبر السياب بمثابة جسر العبور من القديم نحو الحديث. وكما يعبر أدونيس فإن: "تجربة السياب مع ذلك ريادة بدءا منها ومعها أخذ ينشأ للشعر العربي الجديد وسط تعبيري جديد. وهو الآن، من القوة والسيادة بحيث أنه يبدو إبداعا مستمرا.

 

       أما البياتي فقد اتخذ وجهة مغايرة تماما، وانفتح تطوره على أفاق أخرى. فبعد أن كان شاعر "الداخل" والاختيار الوجودي. أصبح باستغلاله للحرية التي يتيحها الشكل الجديد، معبرا عن الفرد ومفصحا عن خيبته. لكنه سرعان ما انصهر قلقه الشخصي في البؤس ونضال الشعب من أجل تحقيق آماله وتطلعاته.

 

       إلى هذا الحد، نكون قد تحدثنا عن مراحل النمو والتطور الأوليين لحركة الحداثة. أما فيما يخص الملامح الأساسية للقصيدة الجديدة. والتوجه الشعري بشكل عام لهذه الحركة فستأخذ موقعها داخل تجمع "شعر" الذي أسهم فيه العديد من الشعراء على رأسهم السياب وأدونيس وغيرهم.

 

       من  المؤكد أن تطور حركة الحداثة جاءت مع تأسيس تجمع شعر في لبنان والذي قاده يوسف الخال رفقة عدد من الشعراء ذوي أصل سوري على رأسهم أدونيس الذي يعتبر من الأعمدة الأساسية في الحركة، فقد أعلن هذا التجمع عن تأسيس مجلة فصلية موجهة، بصورة حصرية لخدمة قضية الشعر والدفاع عنها وحملت المجلة تسمية "شعر" التي صدر عددها الأول في كانون الثاني سنة (1957م). لكن هذا التجمع لم يدم طويلا، خصوصا وأن أدونيس الذي يمثل العمود الفقري لهذا التجمع سيغادره بسبب خلاف حدث بينه وبين يوسف الخال سنة(1963). ليتبنى مرحلة جديدة من مراحل الحداثة وهي "الكتابة الجديدة" وعن انفصاله يقول: "أدى عملنا سوية في مجلة شعر، يوسف الخال وأنا، بالتعاون مع الأصدقاء الآخرين الذين كانوا يكونون هيئة تحريرها ـ القريبة العاملة والبعيدة المتعاطفة ـ أدى عملنا إلى ترسيخ مناخ جديد، نظريا وفنيا، بحيث أصبحت خارج الشعر كل محاولة لتجديد الشعر كما كان يحدده النظريون القدامى. وفي أواخر عملنا المشترك أخذ يتضح لي أن هذا الذي حققناه، وهو مهم جدا، لا يكفي خصوصا أن معظم هؤلاء العاملين. وقفوا عند حدود تغيير الطريقة الموروثة واكتفوا بهذا التغيير."

 

       والى جانب ما ذكرناه، يجدر بنا أن نشير هنا إلى مسالة أثيرت حول حركة الحداثة في الشعر العربي الحديث، والتي يعتبرها البعض نسخة طبقا لأصلها في الشعر الغربي، وبزعمهم هذا يذهبون إلى أن الحداثة ما هي إلا كغيرها من المذاهب الفكرية، والتيارات الأدبية التي سبقتها إلى البيئة العربية، كالواقعية، والرمزية، والرومانسية، والوجدانية…، بل هناك من يعتبرها أخطر من ذلك. حيث يرى فيها حملة على الدين واللغة العربية على حد سواء، فوجدت في فكرنا وأدبنا العربي تربة خصبة، سرعان ما نمت وترعرعت على أيدي روادها العرب، أمثال غالي شكري، والمنظر لها علي أحمد سعيد أدونيس وزوجته خالدة سعيد من سوريا وعبد الله العروي بالمغرب، وكمال أبو ديب من فلسطين، وصلاح فضل، وصلاح عبد الصبور من مصر، وعبد الوهاب البياتي من العراق، هؤلاء وغيرهم من رواد الحداثة العربية لا يمثلون إلا ما رسمه أول من نظر للحداثة في الغرب، بودلير ثم رامبوا ثم مالارمييه، وبول فاليري كما نجد أيضا الأمريكي إزرا باوند، والانجليزي توماس إليوت.

 

       ونورد هنا مقطعا من كلام غالي شكري يؤكد ما أشرنا إليه حيث يقول: " فالحق أن قطاعا عريضا من شعرائنا قد اتصل بفن إليوت في وقت مبكر، لا لأن "لغة الحديث" هي التي جذبتهم في هذا الفن، بل لأن توقيت اللقاء بين جيلنا والحضارة الأوربية صادف من ناحية ازدهار إليوت على النطاق العالمي."

 

        إضافة إلى أن أدونيس ـ باعتباره المنظر الأول للحداثة في الشعر العربي الحديث ـ يعتبر في معرض الرد على من يتبنى فكرة تبعية الحداثة العربية للحداثة الغربية.  أصحاب هذا القول جاهلين للشعر الغربي والعربي على حد سواء. كما أن أدونيس يرى: "أن بعض الشعراء الغربيين الذين يعتبرون أساس الحداثة في الغرب، فهم مع ذلك لم يأخذوا الحداثة من تراثهم.