العولمة والتحديات الراهنة


العولمة والتحديات الراهنة
تعريف العولمة
العولمة يمكن أن نقول إنها في أساسها تصيير المحلي عالمياً؛ فهي وصف لعمل مستمر تدل عليه كلمة Globalisation لكنها في الوقت نفسه وصف لبعض نتائج هذا التعولم. النتيجة النهائية المثالية للتعولم أن تكون للعالم كله لغة أو لغات مشتركة، وأن تكون التجارة فيه مفتوحة ومتيسرة بين كل بلدان العالم، وأن يسود فيه نظام اقتصادي واحد، ونظام سياسي واحد، وأن تسود فيه عقيدة واحدة، وأن تكون للناس فيه قيم مشتركة في مسائل كحقوق الإنسان والعلاقة بين الجنسين، وأن يكون هنالك أدب عالمي يتذوقه الناس كلهم، وأن يسود فيه تبعاً لذلك نظام تعليمي واحد، وهكذا. وأن تكون كل هذه الأمور التي تعولمت مناسبة للناس من حيث كونهم بشراً، ومساعدة لهم على تحقيق طموحاتهم المادية والروحية، أي تكون للعالم حضارة عالمية واحدة. هذا هو الهدف النهائي المثالي، لكن العولمة قد تكون ناقصة، وقد تكون تامة من غير أن تكون مناسبة للبشر بل مفروضة عليهم لظروف طارئة.
وهي عبارة عن إطار قانوني لنظام التجارة متعدد الأطراف. ويؤمن الإلزامات التعاقدية الأساسية التي تحدد للحكومات كيف يمكن صياغة وتنفيذ الأنظمة والضوابط التجارية المحلية. كما أن المنظمة تسعى إلى تنمية العلاقات التجارية بين الدول من خلال المناقشات والمفاوضات الجماعية والأحكام القضائية للمنازعات التجارية.
ظروف نشأتها :
إن حاجة الدول لمنتدى دولي للتداول حول الشؤون التجارية المختلفة كان ملحاً على الرغم من رغبة الولايات المتحدة الأمريكية، فكان أن قامت جهود منفردة بين مسؤولي القطاعات التجارية والاقتصادية التي لها علاقة بانسيابية حركة التجارة الخاصة بها، ثم تبلورت تلك اللقاءات والاجتماعات عن أطر تلقى قبولاً عاماً بين الدول، مستمدة من (ميثاق هافانا)، شكلت فيما بعد الإطار النظري الذي بنيت عليه اتفاقية سميت: (الاتفاقية العامة للرسوم الجمركية والتجارة)، واختصاراً من الحروف الإنجليزية الأولى لاسمها، تدعى "جات" (GATT). وكان الهاجس الأول فيها تحرير التجارة العالمية من القيود التي وضعت بعد الحرب؛ وذلك بخفض الجمارك، والحد من القيود الكمية والنوعية المفروضة على السلع من قبل الدول الأطراف في الاتفاقيات. وتولد عن تلك الاجتماعات اتفاقات بين دولتين أو أكثر، وتغطي في الغالب سلعاً صناعية من المهم لأطراف الاتفاقية وضع ضوابط للتجارة فيها. ولحاجة كثير من دول العالم لمثل هذا النوع من الترتيبات التجارية، زادت تلك الاتفاقات وتعددت أطرافها، وتوسعت بعض الاتفاقيات في أعضائها والسلع الصناعية التي تشملها، وأصبحت تلك الاتفاقيات مجالاً لإنضاج كثير من الأفكار الاقتصادية في مجال التجارة العالمية. ومع كل ذلك، لم تكن (الجات) منظمة بالمعنى الفني الدقيق، وإن كان لها أعضاء مشاركون مشاركة فاعلة في كثير من مجريات اتفاقياتها، ولكنها قدمت للعالم وللفكر الاقتصادي كثيراً من الأفكار الناضجة في مجالها؛ ومن ثم اكتسب كثير من ممارساتها عرفاً دولياً مهماً، وإن كان غير ملزم للأطراف فيها؛ وتبلورت تلك في خفض كثير من الرسوم الجمركية على جملة السلع محل المفاوضات(2). وكانت بعض الدول التي لا ترغب في الانضمام لهذا الملتقى الاقتصادي غير الرسمي تدخل طرفاً أو «عضواً» مراقباً فيه. وقد تبلور العمل التجاري العالمي المدار عن طريق اتفاقية (الجات) عن مبادئ مهمة ألخصها فيما يأتي(3):
1- مبدأ عدم التمييز (أو: قاعدة المعاملة الوطنية): والمقصود أن تتم معاملة كل دولة لسلع الدول الأخرى معاملة السلع الوطنية سواء فيما يتعلق بالضرائب المحلية أو الأنظمة المعمول بها.
2- مبدأ حظر القيود الكمية: والمقصود أن يتم امتناع كل الدول المشاركة في اتفاقية الجات عن استخدام القيد الكمي (أي: تحديد الواردات بكمية معينة) في أساليب التعامل التجاري مع البلدان العالمية.
3- مبدأ تخفيض الرسوم الجمركية: والمقصود أن تتعاون الدول الأعضاء في الاتفاقية بخفض رسومها الجمركية أمام الواردات الأجنبية تحفيزاً للتجارة العالمية، وتقليصاً للعوائق السعرية عليها، أو على الأقل ربط تلك الرسوم بحيث لا تزيد.
4- التعهد بتجنب سياسة الإغراق: والمقصود أن تحاول الدول الأعضاء عدم دعم السلع الموجهة للتصدير دعماً مالياً مباشراً؛ بحيث إن الاتفاقية تريد ترسيخ قيم التنافس الحر بين الشركات والمنشآت التجارية بدون التدخل الحكومي.
ومن أهم أسباب التطورات التي حدثت في مسيرة (الجات) تلك الجولات من المفاوضات بين الدول الأعضاء التي كانت تعقد كل عشر سنين تقريباً، وتسمى في البلد الذي تعقد فيه غالباً. وكانت هذه الجولات مجالاً لإنضاج التجارب في الاتفاقيات المختلفة، ولسماع الأطراف المختلفين ما عند الآخرين حول الاتفاقيات، وللنظر في إدخال سلع أخرى لتشمل في الاتفاقيات القائمة. وقد تم عقد ثماني جولات، كانت الأولى في جنيف عام 1948م. ولكن أهم تلك الجولات هي الجولات الثلاثة الأخيرة: جولة كندي (1964 ـ 1967م)، وجولة طوكيو (1973ـ 1979م)، وجولة أوروجواي (1986 ـ 1993م) ، وكانت جولة أوروجواي أهم تلك الجولات على الإطلاق.
إرهاصات قيام منظمة التجارة العالمية:
لقد تغير موقف الولايات المتحدة المعارض لإنشاء منظمة تعنى بالتجارة العالمية علـى نحـو غير معهـود. ولا شك أن لذلك أسباباً تشترك فيها مصالح الولايات المتحدة مع أوروبا، وبقية البلدان الصناعية.
وأهم تلك المتغيرات:
- استعار المنافسة بين الولايات ودول أوروبا على المصالح، خاصة بعدما تبين لدول أوروبا أن الولايات المتحدة قد شكلت في السنوات الخمسين الماضية أكبر تحد لدول أوروبا في جميع المجالات، خاصة التجارية والثقافية. ومن هنا ندرك أن تشكيل (الاتحاد الأوروبي) بين دول كانت متناحرة إلى عهد قريب لها لغات متعددة وثقافات متغايـرة ومصالح متعارضـة لم يأت اعـتباطاً ولا ترفاً اقتصادياً أو سياسياً؛ بل هو حل غالي الثمن لمعضلات باهظة التكاليف
- عيوب اتفاقية (الجات) السابقة في النطاق وآليات الإلزام والتنفيذ. فمثلاً، توجد ثغرات قانونية في اتفاقية (الجات) في مجالي الزراعة والمنسوجات، جعلت تلك الثغرات الباب مشرعاً أمام الدول للتنصل من التزاماتها القانونية، مؤدية لعرقلة انسيابية التجارة.
- خروج رؤوس أموال الشركات الكبرى من الدول الصناعية واستيطانها في دول نامية؛ مما شكل عبئاً كبيراً على إيرادات تلك الدول من الضرائب المفروضة على تلك الشركات. أضف إلى ذلك أن الدول المتقدمة أصبحت تنوء بأعباء ثقيلة من جراء حماية أسواقها المحلية، وخصوصاً دعم المنتجات الزراعية ومشكلات التنافس بينها حول تصريف فوائض الحاصلات الزراعية. وبطبيعة وضع البلدان الغربية وتركيبتها؛ من حيث الانتخاب السياسي والعلاقة بين الساسة ورجال المال وحاجة كل منهما للآخر، كان لا بد من تدخل الحكومات الغربية لتعديل الأوضاع الدولية لصالح شركاتها.
- التخوف من نجاحات ظهرت بوادرها في الأفق من دول نامية، وآخذة في النمو، مثل تجربة (النمور السبعة) وغيرها. يضاف إلى ذلك انهيار المعسكر الاشتراكي الذي لم تكن بلدانه من أنصار تحرير التجارة.
- ثبوت نجاح المؤسسات والهيئات الدولية للدول الغربية لكونها أداة رخيصة الثمن مقابل المصالح التي تجنى منها؛ لذلك ربطت منظمة التجارة العالمية بالبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي ربطاً إدارياً عضوياً. فالمنظمات الدولية أثبتت أنها أداة قوية جداً لتثبيت أوضاع مناسبة للدول الصناعية، ولتمرير حلول ومقترحات تصبُّ في مصلحة الدول الغربية، ولحل كثير من المشكلات الاقتصادية التي تمهد لتوسع كبير في مبيعات الدول الصناعية.
ما سبق وغيره من الأسباب جعل من قيام منظمة تعنى بالتجارة العالمية أمراً ملحّاً جداً. وقد أدى ذلك إلى تغير قناعات دول كانت ترفض الفكرة من أساسها، مثل الولايات المتحدة الأمريكية.
البعد الاقتصادي للعولمة :
يتجسد البعد الاقتصادي للعولمة في استمرار اندماج الاقتصادات الوطنية والأسواق واعتمادها المتبادل على الصعيد العالمي. وقد تعززت الروابط المتبادلة الاقتصادية المتنامية من خلال التجارة والتدفقات المالية والاستثمارات الأجنبية والزيادة في تدفق العمالة والتكنولوجيا. ومع أن هذه العمليات قد خلقت فرصاً جديدة مثل زيادة الاستثمارات، وتعزيز الخيارات أمام المستهلكين، وفتح فرص العمل، والكفاءة والنمو، إلا أنها شكلت أيضاً ضغطاً كبيراً على البيئة وعلى الكثير من خدمات النظم الإيكولوجية.
- وتزداد حالة الكثير من التحديات البيئية العالمية القائمة حالياً، بما في ذلك نفاد الموارد البحرية، وتغير المناخ، وإزالة الأحراج، والنفايات الخطرة، إما للمزيد من التعقيد أو للتعرض لتزايد اتساع نطاق النشاط الاقتصادي العالمي. فمثلاً هناك تحديات بيئية من جراء التجارة في النفايات والمنتجات الخطرة، ومن انتشار الصناعات الحساسة بيئياً على المستوى العالمي. وإضافة إلى ذلك، فإن سرعة النمو في نقل السلع والخدمات تؤدي إلى سهولة انتشار الأنواع الغازية وتساهم في التدهور البيئي.
- ومن المسلم به حالياً على نطاق واسع أن سياسات الاقتصاد الكلي، المتمثلة في برامج التعديل الهيكلي، يمكن أن تؤدى، على سبيل المثال، إلى تكاليف اجتماعية وبيئية قد تتجاوز الفوائد المباشرة التي قد توفرها هذه البرامج. فمثلاً أدى إلغاء إعانات الدعم من الوقود بحجة تحقيق الاستقرار الاقتصادي، إلى زيادة حدة الفقر والضغوط على خدمات النظم الإيكولوجية الحرجية في بعض البلدان. ولذلك فمن الضروري أن تؤخذ بعين الاعتبار التكاليف البيئية والتكاليف والفوائد الاجتماعية المترتبة عن سياسات الاقتصاد الكلي.
- وفى الوقت ذاته، يمكن أن تساهم عمليات العولمة في حماية البيئة والنظم الإيكولوجية. فعمليات التجارة والاستثمار العالمية تساعد تحويل بعض البلدان النامية إلى بلدان رئيسية في الإنتاج للتكنولوجيات السليمة بيئياً. وثمة أمثلة أخرى للاستفادة من عمليات العولمة في تعزيز الحماية البيئية. فمثلاً، هناك مؤسسات مالية خاصة تعمل بصورة متزايدة على اعتماد مبادئ إكويتر (مقياس مرجعي مالي للصناعات لتحديد وتقييم وإدارة المخاطر الاجتماعية والبيئية في مجال تمويل المشاريع) ووضع سياسات داخلية لإدراج العوامل البيئية في قراراتها وممارساتها الإقراضية والاستثمارية. إضافة إلى ذلك تعمل مبادرات إصدار الشهادات المتعددة أصحاب المصالح، مثل مجلس رعاية الغابات، ومجلس رعاية البيئة البحرية على تسخير قوة المستهلكين لصالح إحداث التغيير.
- ويمكن توظيف العولمة كوسيلة لتشجيع عمليات الإنتاج السليمة بيئياً. فمثلاً يمكن بناء القدرات فيما بين البلدان ذات التوجهات المتشابهة للتعاون في الآليات والسياسات التي تعزز نشر وتطبيق عمليات الإنتاج السليمة بيئياً.
- ومن أجل مضاعفة منافع عمليات العولمة، ينبغي للحكومات خلق ظروف تمكينية مؤاتية لوضع سياسات اقتصادية واجتماعية وبيئية مستدامة. ويعتبر إدراج السياسات البيئية بفعالية في أطر الاقتصاد الكلي والاستثمار والتنمية، أمراً مهماً وحاسماً لتحقيق الأهداف الإنمائية التي حددها إعلان الألفية. وهذا يتطلب تصميم سياسات بيئية جديدة تستجيب لتحديات محددة ترتبط بالعولمة ويتطلب كذلك تعزيز القدرة على تنفيذ السياسات القائمة حالياً.
سلبيات العولمة:
ـ الإخفاق في تحقيق نسب نمو مرتفعة، وتفاقم مشكلة البطالة في العالم فمن المتوقع أن يرتفع معدل البطالة في العالم إلى الضعف خلال السنوات القليلة القادمة. فالمنافسة في الاقتصاد المعولم لا تعرف الرحمة، ولم يعد هناك فرص عمل، وقد أخذ قسم كبير من العمال والموظفين يتحول من عقود عمل نظامية إلى عقود عمل مؤقتة من حيث عدد ساعات العمل أو من حيث مدة العقد. كما أن الأجور في انخفاض مستمر. وخلال الأزمة المالية التي عصفت في المكسيك في عام 1995 فقد 3 ملايين عامل لعملهم وانخفضت القوة الشرائية إلى النصف. وفي ألمانيا أكثر من أربعة ملايين فرصة عمل مهددة بالضياع.
ـ القضاء على الطبقة الوسطى وتحويلها إلى طبقة فقيرة، وهي الطبقة النشطة ثقافياً وسياسياً واجتماعياً في المجتمعات المدنية، وهي التي وقفت في وجه تيارات التطرف وقاومت قوى الاستغلال والاحتكار تاريخياً.
ـ تهديد النظام الديمقراطي في المجتمعات الليبرالية وخضوع معظم الدول النامية لسيطرة المنظمات المالية الدولية وانشغال رجال السلطة فيها بمكافحة البطالة والعنف والجريمة والأوبئة القاتلة.
ـ زيادة الفجوة بين الدول الغنية والفقيرة في المجالات الاقتصادية والثقافية والتكنولوجيا. ويضم العالم حالياً أكبر نسبة للفقراء من مجمل سكان الأرض هي الأعلى في التاريخ.
ـ إهمال البيئة والتضحية بها. فمن المتوقع أن ترتفع كمية الغازات الملوثة للبيئة بمقدار يتراوح بين 45
ـ 90%. وأصبح ارتفاع مستوى البحار لا مفر منه إذا بقيت كمية غاز ثاني أوكسيد الكربون ترتفع بهذه النسبة. وهذا يهدد المدن الساحلية، إذ أن أربعة أخماس التجمعات السكانية التي يزيد عدد سكانها عن نصف مليون نسمة تقع بالقرب من السواحل.
ـ احتمال تفاقم الحروب الداخلية والاقليمية في دول الجنوب لعدم الاستقرار في النظام العالمي والأنظمة الداخلية في تلك البلدان.
ـ ازدياد نزعات العنف والتطرف، وتنامي الجماعات ذات التوجهات النازية والفاشية في التجمعات الغربية، الموجهة ضد المهاجرين الأجانب وخاصة من الدول الإسلامية والدول الفقيرة.
ـ ارتفاع نسبة الجرائم وجرائم القتل في العالم فقد دل التقرير الذي أصدرته الأمم المتحدة عن الجريمة والعدالة لعام 1999 إلى أن الضغط الاجتماعي والاقتصادي الذي يقاس بالبطالة والتفاوت وعدم الرضا بالدخل ـ عامل رئيسي في ارتفاع معدل الجريمة.
كما أن انتشار أفلام هوليوود وأفلام العنف بما فيها أفلام الكرتون ساعد على انتشار أعمال العنف. ـ ظهور طبقة فاحشة الثراء تسكن في أحياء خاصة تحت الحراسة المشددة وهي الطبقة التي صعدت على حساب الفقراء والطبقة الوسطى.
ـ هيمنة الثقافة الاستهلاكية وتهميش الثقافات الأخرى ومحاولة طمس الهويات الثقافية للشعوب.

لمواجهة هذه السلبيات يمكن اتخاذ بعض الإجراءات ومنها:
ـ إجراء الإصلاحات الضرورية كالإصلاحات الإدارية والسياسية والتعليمية وتشمل إصلاح الترهل الإداري في أجهزة الدولة ورفع مستوى التأهيل والتدريب لرفع كفاءة الأيدي العاملة لمواجهة تحديات العولمة. وخلق قاعدة علمية تكنولوجية محلية. وإجراء الإصلاحات السياسية وتعميق الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وترسيخ سيادة القانون.
ـ تعزيز التكافل الإقليمي بين الدول النامية لتعزيز قوة هذه الدول لمواجهة تحديات العولمة مجتمعين.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire